التحضر والعنف
التحضر صيرورة اجتماعية ذات نفس طويل يجد جذوره من الخروج من الجماعات المحلية بالمعنى العام نحو المدينة بالمعنى الحديث للكلمة، وهو المعنى الذي بدأ حتى بخصائص المدينة القروسطية كما حدد فيبر ذلك، من كون المدينة أكثر من تجمع ترابي وأكثر من تناول اقتصادي، مجال يملك قانونا خاصا وحدا أدنى من الاستقلالية السياسية وإدارة يشارك في تسييرها المواطنون.
لكن مع الصناعة واستتباب الأمر للرأسمالية إنتاجا ولليبرالية تدبيرا، بدأت المدينة تخلق أسلوبا للعيش والفعل تطبع حياة الحضري في حالات السواء كما في حالات العنف، وذلك كله في إطار العلاقات الاجتماعية غير الشخصية والسطحية وغير الدائمة، الأمر الذي يسهل عدم الحاجة القوية إلى الاندماج الاعترافي والهوياتي عبر القدرة على التنكر و تعقيد الأدوار والانتماءات.
ورغم كون السطح يبدي نوعا من الإنصاف وتكافؤ الفرص فقد لعبت الصراعات دوما دور محرك دواليب المصالح نحو تراتبية أحيانا مقبولة ومرممة لما انكسر في المجتمع عبر التضامن والمساعدة، وأحيانا عنيفة ومهشمة عبر الإقصاء والتهميش والعنف والعار.
إن الميز الحضري ظاهرة حديثة تتجاوز المدلولات التقليدية للفقر، نحو نوع من شرعنة الإقصاء بالقوانين والمساطر والآليات المسطرية.
وإذا كان رد الفعل أثناء الحرب الباردة مِؤطرا فعلا وتنظيما، الأمر الذي كان يهب للحياة المكافحة نوعا من الدلالة والرضى عبر الشعور بالجدوى بالمساهمة في إنتاج الثروة والخيرات، وبانتماء يقوي الهويات، فإن الأمر بعد ذلك أصبح نوعا من الاستغلال المتوحش ليس بسرقة فائض القيمة هذه المرة، لكن بسرقة معنى الحياة عبر المنافسة الشديدة في سوق الكفايات.
فكان لابد أن تظهر ردود أفعال فعلية مادية وأخرى رمزية، وأن يظهر جنوح وإجرام لكن بدلالات جديدة لم يستتب لها الأمر بعد.
إن تتبع مسارات التحضر والهجرات والعودة إلى الأدبيات السوسيولوجية الراصدة لها ليعتبر تمرينا منهجيا جيدا في فهم كيف تؤدي التغيرات الكبرى إلى تفكك التنظيم الاجتماعي المؤدي بدوره إلى تفكك التنظيم الفردي وضعف العلاقات والروابط والجنوح.
ليتأكد أن العنف منتوج تاريخي لا يمكن فهمه دون رصد السياقات، وتعتبر السياقات الحضرية في المجتمعات الحديثة حاسمة.